بدأت حالة الصمت المريب لحكومتنا حين طلبت القيادة العليا من الفريق ياسر العطا ـ الرجل الذي قاد عمليات التحرير من الميدان ويحتفظ بعلاقات حسنة مع كل أطياف المجتمع ـ أن يلوذ بالصمت.
كان العطا، حين يتحدث، يبعث الطمأنينة في نفوس الناس، ويؤكد أن هناك دولة وجيشًا يحفظان العرض والكرامة.
ظل ثابتًا في وجه الميليشيات بأم درمان، وكان يسمي الأشياء بأسمائها، فيقول للحمار: حمار، وللكلب: كلب، حتى فُرض عليه الصمت كمقدمة لتفاهمات مع العرب والغرب.
ثم أُبعد ياسر الأعيسر من منصب الناطق الرسمي باسم الحكومة، وتم تعيين ناطق رسمي باسم القوات المسلحة، وصمت الجميع عن الكلام.
توقفت متحركات القوات المسلحة في أطراف الأبيض، وحار الناس: ماذا هناك؟
لا إجابة.
وأصبح إعلام الميليشيا هو المسيطر على الساحة، ينشر تفاصيل مفاوضات وفد الجيش والدعم السريع، بينما نصب الأمريكي بولس نفسه متحدثًا باسم الشعب السوداني، وتولى المهندس عثمان ميرغني مهمة التبشير بالاتفاق الذي يُطبخ بين القاهرة وواشنطن لوقف إطلاق النار لمدة ثلاثة أشهر، حتى تكتمل كل إمدادات الميليشيا العسكرية، ثم تجتاح السودان من الأبيض حتى بورتسودان.
تلك هي أماني الميليشيا وتابعيها من صمود و”قحت”، ولكن حالة الصمت وتغييب الشعب عما يجري من مفاوضات حقيقية، أصبحت نتائجها معلومة بالضرورة لكل من له بصيرة.
إن حكومتنا مطالَبة اليوم قبل الغد بأن تخرج إلى الشعب، الذي دفع ثمن الحرب دماءً ودموعًا وشهداء وضحايا، نُهبت بيوتهم واغتُصبت نساؤهم، ببيانٍ يكشف تفاصيل ما يجري من وراء ظهر الشعب السوداني وأغلبيته التي وقفت مع القوات المسلحة في أحلك الظروف، ودَفعت ثمن حريتها.
الولايات المتحدة الأمريكية تباغت السودان اليوم بمشروع تسوية جديد، تم تصميمه بما يعيد الاتفاق الإطاري الذي كان سببًا في قيام الحرب الحالية.
فلماذا اضطرت القيادة للقبول بهذه التسوية والهدنة التي تتبعها تدابير سياسية يقودها الدعم السريع وشريكه “صمود”، وكأنهم طرف منتصر في الحرب؟
وربما يكون وراء هذا الصمت موقف جديد سيعلنه البرهان للقضاء على الميليشيا، وأن القيادة حينما صمتت الفترة الماضية، إنما صمتت لفعلٍ قادم، لا لحديثٍ مرسل في القنوات الفضائية.
وقبل أن تجف دماء الفاشر، ويفنى ما تبقّى من مواطني المدينة، ارتكبت ميليشيا آل دقلو يوم أمس مجزرة جديدة بقرى منطقة خورطقت شرق مدينة الأبيض، حينما استهدفت مسيرة للجنجويد بيت عزاء، لتقتل في الحال أكثر من ثلاثين ضحية من الأبرياء.
فكيف لهذه الوحوش البشرية، التي تقتل الناس على الهوية كما حدث في الفاشر، أن تتعايش مع أبناء الوطن؟
وهل تستطيع الحكومة ـ مهما نشرت من الجيوش ـ أن تحمي قادة الميليشيا من غضبة الشعب السوداني، وهم يعدّون أنفسهم اليوم، وتبشرهم أمريكا بأن تنصبهم حكامًا علينا، وهم المهزومون في كل المعارك: في الخرطوم، والجزيرة، وكردفان؟