قبل أن نقلع … دعنا نفتح الصندوق الأسود
ما أن تُغلق أبواب الطائرة، حتى يُغلق معها باب السؤال: من يملك هذه السماء؟ من منح الحق لشركة واحدة أن تبتز الجائع في تذكرته، وتبيع للمريض رحلةً بأغلى من كلفة علاجه؟ ومن حوّل الرحلة من بورتسودان إلى القاهرة إلى استثمار، والمواطن إلى سلعة تُفحص بميزان الدولار لا بالرحمة؟
في السودان، الطيران ليس وسيلة نقل… بل وسيلة لسحب ما تبقى من كرامة الناس في المطارات. نعم، أقلعت الطائرات… لكن العدالة ما تزال تنتظر الإقلاع من مدرج النيابة.
في زحمة الملفات المتراكمة، وعلى طاولة رئيس الوزراء الجديد الدكتور كامل إدريس، يتكدّس الفساد مثل سحبٍ داكنة فوق بلدٍ أنهكته الحرب. لكن أخطر ما في هذه السحب، أنها لا تُرى من الأرض… لأنها تحلّق في السماء.
قطاع الطيران في السودان لم يعد وسيلة تنقل، بل تحول إلى مزرعة نهبٍ منظّم. السماء التي كانت يومًا رمز السيادة، أصبحت اليوم فضاءً للابتزاز، والمطارات لم تعد بوابات للعالم، بل مصائد يُحتجز فيها السوداني بين الجوع والمهانة.
لا توجد دولة في العالم تُسعِّر تذاكر السفر بعشوائية كالسودان. الرسوم لا تخضع لقانون، والتكاليف لا تخضع لرقابة، والتذاكر تُكتب بالأمزجة، وتُعدّل حسب هوى الشركات. فالمواطن السوداني يدفع أحيانًا ثلاثة أضعاف ما يدفعه الراكب في مطارات مشابهة بدول الجوار لنفس المسافة ونوع الطائرة، ولا أحد يسأل: أين الجهة المسؤولة عن هذا الجور؟ ولا متى كانت آخر مرة قرأ فيها ديوان المراجعة فاتورة وقود أو عقد تأمين أو حتى سعر وجبة طيران؟
السفر اليوم لمن استطاع إليه سبيلًا: تذكرة إلى القاهرة تُباع بمبلغ يكفي لإعاشة أسرة شهرين، العمرة تُسوَّق كفرصة استثمارية لشركات الطيران، واللاجئ العالق على رصيف الهروب لا يجد سوى مكاتب تبيع الوهم وتُقفل الهاتف بعد التحويل.
أما الرحلة نفسها، فهي أشبه بعقوبة مع وقف التنفيذ: طائرات مرقعة، لا تليق حتى بالشحن، ضيافة باردة، وجبات مشكوك في صلاحيتها، مقاعد لا ترحم الأجساد ولا الأرواح. صراخ الركاب عند الهبوط أصبح طقسًا سودانيًا خالصًا، لا يشبهه شيء سوى صمت الطاقم أمام انطفاء أجهزة التكييف… في الجو.
لم يكن تحطم “سودانير” مجرد فشل اقتصادي، بل كان بداية انقلاب ناعم على المجال الجوي، حيث تسللت شركات الظل عبر ثغرات القانون، وحلّ رجال الأعمال محل الطيارين، واحتلت المافيا موقع القيادة.
من “أبابيل” التي كانت تحلّق بأسرار الجيش، إلى “تاركو” التي نهضت على أكتاف النظام البائد، إلى شركات الشحن التي تختلط رحلاتها بخطوط التهريب… كل طائرة لها قصة. وكل شركة لها غطاء. وكل رحلة لها مالك خفي.
نحن لا نحقق في شركة، بل في منظومة. منظومة نَفَذت من بين يدي الدولة، وأصبحت تُدار من غرف خارج المطار، وربما من خارج الحدود.
إن كنتَ تسأل، يا رئيس الوزراء، من أين نبدأ معركة استعادة الدولة، فدعنا نقول: ابدأ من السماء. لأن المدرج الذي تُقلع منه الطائرات، هو نفسه المدرج الذي أقلعت منه أولى جرائم النهب المنظّم في عهد الإنقاذ.
من الأجنحة السيادية إلى التحطم
كيف بدأ الطيران في السودان كذراع سيادي وانتهى كمجال منهوب تديره الشبكات؟ بدأ الطيران في السودان في حقبة الحكم البريطاني كأداة استعمارية، لكنه تحوّل بعد الاستقلال إلى أداة سيادية. فقد تأسست “سودانير” عام 1947 كأحد رموز الدولة الحديثة، وربطت بين العواصم الأفريقية والعربية، وكانت فخرًا سودانيًا يُحسب ضمن أدوات القوة الناعمة للدولة.
غير أن هذا الحلم بدأ في الانحدار منذ عهد النميري، حين بدأ تدخل السياسة في شؤون الطيران، وبلغ قاع الانهيار في حقبة الإنقاذ: بيع طائرات، خصخصة مشبوهة، إفقار الكفاءات، وتفكيك الأكاديمية الجوية.
حين فُقدت السيطرة على “سودانير”، ظهرت شركات خاصة لم تُبنَ على المهنية، بل على النفوذ، وعلى علاقات مع أجهزة الدولة العميقة.
وبهذا، تم التحوّل الجوهري: من شركة وطنية ترمز للسيادة… إلى شركات واجهات تُدار من خلف الستار.
القادم… أسرار لا تطير بعيدًا
سننزل إلى أرض المهابط التي لا تظهر في خرائط الملاحة، وندخل إلى صالات لا تُفتّش فيها الجوازات، ونتتبع شركات بدأت بأوراق مستعجلة… ثم أقلعت بثقة الملوك.
سنروي كيف تحوّلت رخصة الطيران إلى باب خلفي لغسل الأموال، وكيف وُقّعت عقود الشراء داخل مكاتب الصمت، ولماذا ظهرت وجوه لم تمر بأكاديميات الطيران… لكنها جلست في قمرة القيادة.
خلف كل شركة حكاية، وخلف كل رحلة شحنة، وخلف كل طائرة… رجل لا يظهر في الصور.
وإن لم تهبط العدالة على هذا المدرج يا رئيس الوزراء، فإن الطائرة التي أقلعت باسم “التغيير”… ستسقط في أول مطبّ فساد